هذه قصتي الجزء التاسع.....
عدت إلى مونتريال ... و آنا على قناعة تامة بالعدول عن قرار الانتقال لمدينة لندن أونتاريو فالخيارات هنا في مونتريال أكبر و أوسع من جميع النواحي ....على سبيل المدارس و المعاهد و الجامعات الانجليزية و الفرنسية ... لا بد آن يكون مستقبل ابني هنا أفضل .... سيتعلم اللغات ... وضعت على الطاولة ... أحلامي ...و بدأت أفكر في هذا الصغير .... لقد بدأ و بعد مدة ستة أشهر يتكلم الفرنسية ...إنها لغة آخرى .. إضافة أخرى .... باب بل أبواب ... ستفتح له ...أرزاق السماء.... بل سيكون لوحيدي المستقبل الأفضل ....لا... لن أضيع عليه هذه الفرصة ... نتائجه جيدة ....و حتى آن معلمته أخبرتني أنه أصبح مؤهلا لدخول الصفوف الاعتيادية .... لكني فضلت أن يكمل عامه في صف اللغة الى نهاية العام ...طبعا سعادة زوجي التونسي كانت لا توصف ... فمونتريال معشوقته .... التي لا أْعرف متى و آين وقع في حب هذه المجنونة ....
عاد زوجي لعمله في أبوظبي ... و جلست أنا و أحمد .... ماذا علي آن أفعل .. فقد انقطعت عن كورسات اللغة الفرنسية ... على الآن آن أعود .. و لكن التسجيل يستغرق مني انتظار أكثر من ثلاثة أشهر ....فلا خيار لي سوى الانتظار ..... كان هذا عامي الأول في مونتريال ... زوجي لم يتركني فكان كل ثلاثة أشهر ... يأتي لزيارتنا ليطمئن علينا و هذا ما شكل عبئا كبيرا فتذكرة الطائرة .. تقسم الظهر ...أما .. آنا رؤى العاملة .. تحولت لسيدة منزل من الطراز الأول أقضي وقتي في الطبخ و النفخ ..و التنظيف ..... فالثلج يكاد يصل للركب .... و لا سبيل لأي نشاط ..... لا أصدقاء لي ... لا عائلة ... لا شيء يدعو للفرح ....
كنت من السخف بأن حولت صفحتي الفيسبوكية لمطبخ ... أعرض فيه ما أطبخ و أصور الأطباق ... ربما لتعويض الشعور بالنقص ....بأنني لازلت أنجز شيئا .... و حتى أن فصول الطبخ .... جزء من فصول الكيمياء ....ألوّن ... و أجمّل .... و أطبخ و أطبخ ....بنفس الكمية التي كنت أحضرها عندما كنت هناك ... حيث العائلة ... و اللمة الحلوة ...و الأقارب و الأصدقاء .... هناك .... لا يكاد يمر يوم إلا و مائدتي عامرة بالأحباب .....كنت اعتقد بآنه بأي وقت ... قد يقوم أحدهم بزيارتي ....لابد أن يكون كل شيء جاهز..... سئمت من المطبخ و الطبخ .. بل أن الصحون سئمت مني .... أجلس ...وحيدة .... أشرب القهوة أمام أكوام الثلج ....أحاول أن أكسر الروتين ... فأقوم بتحريك الأثاث يمينا و يسارا لعلي أغير من هذه النفس التي أجهدها الحزن و الأسى .....أراقب صفحات الفيسبوك و أخبار سوريا المذبوحة .... و يزداد حزني يوما على نفسي .. يوما على أهلي ... يوما على ابني ... و آخر على زوجي ....لم أعاشر أحدا .... كعشرتي لنفسي ......عرفت معنى العزلة ....معنى أن تكون وحيدا .. آنت و خيالك ...معنى أن ترسم على حيطان بيتك ... شخصيات تتحدث معها ...... حتى طاولة الطعام ... كنت أضع عليها ... أربع صحون ... صحن لي و صحن لابني أحمد و صحن لأبي و زوجي ....هكذا كنا ... نجلس ....و في كل يوم ... ألمم الصحون الفارغة ....لا يوجد من يملأ هذا المكان ....
و بين فينة و آخرى كنت أخرج لأمشي قليلا في الحي الذي آسكن فيه .....لا يوجد ما يجذب ... أكوام ثلج على حافة الطريق ....و بيوت تشبه بعضها لحد الملل .... كل الأبنية تتشابه ... و كأن مهندس هذه المدينة ... قد عمل نسخ و لصق على مجسماته ..... نمط واحد من البناء ... بلكونة في كل بيت .... أدراج حديدية حلزونية .... ... كم أشعر بالشفقة على سكان هذه المدينة ....لا يرون الشمس .... لا يعرفون الحياة .... لا يعرفون البحر ... يعيشون في روتين .... الكل و في كل مكان يهرول ....كم هم بؤساء .....
و كم نحن محظوظون بأوطاننا المنهوبة ....هناك سرقوا كل شيء .. حتى الشمس ... و القمر .....هناك حيث تقتلع الأعضاء ...و تفقأ العيون ... هناك ... أوطان ...... أنت فيها مجرد رقم ...على لوائحهم ....تلك الأوطان التي تشوهت ...بكل أنواع الظلم و الظلام ......هناك حيث السواد الأعظم ... كل شيء حتى القلوب ...موحشة مسفرة مدبرة ....
هناك إلى حيث أنتمي ....إلى بلد يموت فيه من الناس أكثر مما يولد ....
هناك إلى حيث أنتمي ....إلى بلد يموت فيه من الناس أكثر مما يولد ....
أصبح الصيف على الأبواب ....أما ربيع هذه البلاد .... فلا تكاد تلمحه ....بدأت الحياة تدب في كل روح .... و الأزهار في كل مكان ...أما الفتيات .. فما إن ارتفعت درجة الحرارة فوق الصفر ...بدأن يظهرن ما كان يخفيه الشتاء من أجسادهن الجميلة ...بدأت أفكر عمليا ... بالانتقال إلى بيت آخر ...لا أستطيع المكوث أكثر في هذا القبر .... فتحت صفحة الكيجيجي و هو موقع كندي مشهور تجد فيه عزقة أو برغي للبيع ...فتحت صفحة البيوت ...و قلبت في صور البيت ...بيت جميل .. و طلة أجمل ... اللهم اجعله من نصيبي .... أريد أن أتحرر من هذه الزنزانة ..... تغيير البيت بالنسبة لي كان كتغيير المدينة ....
اتصلت بالرقم المطلوب و ذهبت لمقابلة صاحب البيت و زوجته ... حاولت أن يبدو علي مظاهر الغنى ..حتى يطمئنوا أكثر ....قمت بتسريح شعري الذي اشتاق للمشط .... ....و هذا الوجه الأصفر ... سألّونه ... سأجعله أرجوانيا جميلا ...سأضع بعض المساحيق لتغطي تعب الشهور الماضية .... سأرفع قامتي الصغيرة بكعب عالي ....لأبدو ممشوقة بعض الشيء .... هذه الخطة الأفضل ...ليقتنع صاحب البيت بأنني سيدة مجتمع ... كما كنت ... سابقا ...نجحت الخطة ...ووافق على تأجيري هذا البيت الجميل ... كان لي كبيت في الجنة ....فشارع هادئ ... لا يمر به عباب الحافلات صباحا ...و على يساره حديقة على مد البصر ...آما بلكون المطبخ فيطل على حديقة البيت .... التي يزرعها المالك بكل ما طاب من الخضار ....صاحب البيت ايطالي و بالصدفة و بعد أن وقعت العقد .. وجدت صورته في إحدى الجرائد التي تصل للبيت ... إنه رئيس بلدية المنطقة ... كم أنا محظوظة ...سأتمتع بخدمات صيانة جيدة ...بدأت حفلة البحث عن شركة لنقل الأثاث الذي كنت أخشى عليه كما أخشى على نفسي ....هنا لا مجال للتغيير فالوضع الآن مختلف ... أنا لست في أبوظبي حيث أستطيع تغيير ما لا يعجبني .....
انتقلت للبيت الجديد ...و كأنني دخلت كندا مرة أخرى ....قمت بترتيب كل شيء و بيدي .... كنت على مقربة من استقبال زوجي في البيت الجديد ....كم هو محظوظ ... يأتي دائما ... ليجد كل شيء حاضر ....أما أنا .... فكأن روحا جديدة تغلغلت أعماقي ... و كأن الله بث بي من روحه ......علي أن أبدأ من جديد .... لا يمكن أن أستمر بلبس الأسود ... علي أن أخلعه ... جميلة هي الألوان ..... و جميلة أنا بها ....ما ذنب هذا الطفل ليرى أمه متشحة بالسواد ....على الأقل لأجله ... ....لن أنسى يوما عندما استلقى بجانبي ....و بأصابعه الصغيرة ... أخذ يشد وجهي ...محاولا رسم البسمة ....لم يكتفي بهذا بل نظر في عيني و قال ... إلى متى ستبقين حزينة ...أريد أماً سعيدة ... صفعني بكلماته ....و خرج ...أذكر أن عيناي توقفت عن الرمش .... مدة ... لا أستطيع ذكرها ...نعم ...من حق طفلي على أن يرى أماً سعيدة ...
انتقلت للبيت الجديد ...و كأنني دخلت كندا مرة أخرى ....قمت بترتيب كل شيء و بيدي .... كنت على مقربة من استقبال زوجي في البيت الجديد ....كم هو محظوظ ... يأتي دائما ... ليجد كل شيء حاضر ....أما أنا .... فكأن روحا جديدة تغلغلت أعماقي ... و كأن الله بث بي من روحه ......علي أن أبدأ من جديد .... لا يمكن أن أستمر بلبس الأسود ... علي أن أخلعه ... جميلة هي الألوان ..... و جميلة أنا بها ....ما ذنب هذا الطفل ليرى أمه متشحة بالسواد ....على الأقل لأجله ... ....لن أنسى يوما عندما استلقى بجانبي ....و بأصابعه الصغيرة ... أخذ يشد وجهي ...محاولا رسم البسمة ....لم يكتفي بهذا بل نظر في عيني و قال ... إلى متى ستبقين حزينة ...أريد أماً سعيدة ... صفعني بكلماته ....و خرج ...أذكر أن عيناي توقفت عن الرمش .... مدة ... لا أستطيع ذكرها ...نعم ...من حق طفلي على أن يرى أماً سعيدة ...
بدأت برسم خطة جديدة ... لتغيير مسرى حياتي ... قررت الانطلاق من جديد .... خلعت الأسود ... أغلقت كل قنوات الأخبار ....و بدأت مرحلة طقطقة الصور ....سأوثق كل حركة ... بل سأصور كل شيء ... هذه هوايتي التي أحب ..... نعم .... الصور بالنسبة لي هي الوجود .... هي أنني هنا ... هي لحظة ... ربما أكون بجوار أحد .... و ربما أفقده .... أريد أن تمتلأ صفحاتي بصور الجميع . ......أصور البيت و الخضار وأصور المارة في الطريق ... و أصور و أصور ...و كأنني أبحث عن ذاتي المفقودة في هذا الكم الهائل من الصور ....بدأت باكتشاف المدينة و بشكل مختلف ....قررت أن أخرج ...أن أتكلم ....نعم ..سأتكلم .... فآنا أجيد لغة الكلام ....لا بأس سأتحدث بالإنجليزية ...على أن أجد خيطاً يربطني بهذه المدينة ...سأقرأ الجمال في ثنايا طرقها ....سأبحث عن مفاتيح السعادة التي ضاعت مني هنا .... لا بد و أن أجد ضالتي ....بدأت بالخروج في كل يوم إلى قلب المدينة القديمة ....كنت أمشي و أمشي ... و أرى وجها جديدا لهذه المدينة ... هذه الشوارع الأوربية العتيقة .. وتلك الكنائس المزركشة ...... و هذا النهر .... الذي يخفي بداخله قصص العاشقين ... و انعكاسات قبلاتهم .....ذلك المهرج الذي يحاول جاهدا إضحاكي بلغة لا أفهمها لأعطيه بعض النقود ... حتى طلب المال هنا ... له طقوس مختلفة ....كل من لديه ...ألة موسيقية و يجيد العزف عليها ...يجلس في ساحات المترو .... و يعزف و يزين طريق المارة بأجمل الألحان مقابل بعض الدولارات .... لا يشعر بالخجل ....بل هو في قمة السعادة ....ترى من يرقص بلا سبب و بدون موسيقى ... ومن يعرض عليك رسما كاريكاتوريا .....في قلب المدينة القديمة ... تجلس و تقضي ساعات و ساعات و أنت ترى إبداع الخالق في كل لوحة بشرية .... أجساد جميلة و ملامح لطيفة ... ألوان غريبة ... لكنها جميلة .. و قصص حب و عشق بألوان و أعراق مختلفة ....هنا لا مكان للعرق الواحد .... لا مكان لابن الضيعة ... لا مكان لبنت المدينة ....لا تميز ذلك من هذا ... هنا لا توجد العنصرية التي عشتها في بلدي ... نعم .... نحن عنصريون ... عنصرية بين عائلة و أخرى ... و بين مدينة و قرية ... عنصريون حتى في لهجاتنا ......ما هذا التنوع البشري بأدق تفاصيله ...سمراء أفريقية ..في أحضان أوربي أشقر ... جمعهم الحب في هذه المدينة .... كيف حكمت عليها بالسوء ... فيها الكثير من الحب ....ترى الحب في كل زاوية من زواية المدينة القديمة .... في جولاتي كنت أتقصد أن أضع نظارة شمسية لأسترق النظر دون أن ألفت النظر ...إلى قبلات العاشقين و عناق الآحبة ...
في كل يوم كنت أعود إلى المنزل وفي جعبتي الكثير من قصص الصور ... التي التقطها ....
و بعد مرور الصيف الجميل ... عدت مرة أخرى لمقاعد الدراسة في كولج روزمونت ....هنا ... في هذه الكلية ... عرفت معنى آخر من معاني الحياة ...
...هنا بدأ فصل جديد من فصول الحياة ....قصتي مع الأعمى الذي قال لي ...:
و بعد مرور الصيف الجميل ... عدت مرة أخرى لمقاعد الدراسة في كولج روزمونت ....هنا ... في هذه الكلية ... عرفت معنى آخر من معاني الحياة ...
...هنا بدأ فصل جديد من فصول الحياة ....قصتي مع الأعمى الذي قال لي ...:
( هناك من يستحق أن نعيش لأجله ... نعم ...هناك من يستحق ...) .
رؤى الكيال
الخميس ١٧ \ ١١ \ ٢٠١٦
حقوق الملكية و النشر محفوظة
ليست هناك تعليقات :
إرسال تعليق