هذه قصتي - الجزء الخامس عشر ...
الفراغات التي بين آصابعك … موجودة لآنه هناك شخص آخر يمكن آن يملؤها
هذه قصتي الجزء الخامس عشر ..
مضت الأعوام بسرعة البرق .. إنه العام الثالث على مكوثي هنا في المنفى .... لا أشبه شيئا ...و لا شيء يشبهني ... أصارع الزمان و المكان ... أريد أن ألملم عائلتي المبعثرة هنا و هناك ..تجدني تارة في حمص و تارة في أبوظبي ....و في قلبي غصات وطن و ضجيج حرب ... يحيط بي صوت المدافع .... و أنات المحرومين .... حتى هنا تحت شجرتي ...أحاول الهروب من ذاكرةٍ محشوة ٍ بذكريات ٍو قصاصاتُ ورق ....و قصصُ حبٍ مبعثرةٍ هنا و هناك ...لكن عبث .. كل شيء يكبلني .... يقيدني .. تجدني ملفوفة بسلاسل من الحديد .. تآسرني ..و تتحكم بحركتي ...و توارد أفكاري ...
في كل ليلة ... أخرج من محفظة أوراقي .. جوازي السفر السوري ... أحدق به كثيرا ... و أجهش بالبكاء ....
كنت أحبك كثيرا ... كنت بالنسبة لي .. العزة و الكرامة و الأنفة ... لكنك أصبحت مصدرا للقلق . .... تهمة بالإرهاب ... قطعة من الورق لا قيمة لها ....
الآلاف المؤلفة من الناس .... عليها أن تقطع البحر و تغامر و تفترق هنا و هناك .. لتحصل على جواز آخر ... يؤهلها لتلتقي مرة أخرى مع من تحب ...أصبحت كل الأبواب مؤصدة أمامنا ...لا سبيل لنا سوى الانتظار و الانتظار ...و الإبحار يوما فيوما في المجهول ...في قلب كل واحد منا ... غصة من طعم مختلف ... لكن غصة الوطن ..هي الخانقة .. .. عندما تقول أنك سوري ... و ترى ملامح الشفقة أو الخوف منك ... تحاول أن تواجه الجميع... و تشرح لهم .. أنك من بلد الحضارة و أن الأحرف التي تنطقون بها .. هي حروف أبجديتنا الأوغاريتية ...في كل مرة أقول أنا سورية ... أبدو كذئبة مفترسة .. نعم أريد أن أفترس كل هذا النفاق الذي آراه في وجوه العالم ...أدافع و أشرح للجميع كيف كانت سورية ... بلد ..كل ما فيه جميل ...
و الأجمل ...هو أمي ... أمي يعني حمص ... أمي يعني جذور ضاربة في العمق ... أمي يعني الصدق...رغم كل الظروف التي تعيشها هناك .. إلا أنها تجد سعادتها في لملمة الأرامل .. و اليتامى ... في رسم الفرحة على وجوه المرضى .... هي تيريزا .... بل أبقى .... تقوم بتدريس الأطفال ممن حرموا من نعمة الدراسة .... تقول: ألا يكفي أنهم حرموا من الأب و الأم ... لا بد أن نكون لهم .. أهل ... كيف سأخرج و أترك هؤلاء ... لا معين لهم ......يالله .... لا شيء يشبه حبها لحمص و لتراب حمص .... لذلك أقول دائما ... هي الأصدق ... أمي .... يعني حضن أفتقده ... لم أكن أدرك أنني كلما كبرت عاما .... سأبكي فراقها أكثر... لم أكن أدرك درجة التعلق بها...رغم كل محاولاتي بالتظاهر بأني قوية وأستطيع التأقلم مع جميع الظروف ...بل حتى و التغلب عليها ... إلا أنني ....من الداخل ..خاوية .. باردة .. خائفة ...أرتجف حنينا لحضنها ... أحن لفنجان قهوة بصبحتها .... لقهقاتنا الصباحية و ثرثرتنا بعد كل عرس ... أنانية أنا ... . تركت أمي .. تركت أبي .... لألتحق بسنة الحياة ...إنهم ... هم .. سنة الحياة ... بل هم الحياة كل الحياة ....
وكلما شعرت بالشوق .... قفزت نحو مرآتي ... صديقة كل اللحظات ..... آحدثها و تحدثني ... أسأل نفسي في كل يوم ... سؤال واحد ... فقط .. إلى متى ؟.... و متى سأعود لحياة العائلة؟ ... حياة اللمة و الحب ...التي افتقدتها ...كثيرا ... افتقدت .. دخول زوجي ..يحمل الأكياس ... يرجع من عمله و العرق يتصبب من جبينه .. افتقدت ...تلك اللحظات التي يجري فيها أحمد ليفتح الباب و يقفز حول رقبة والده يعانقه و يقبله و يسأله .. بابا ماذا جلبت لي معك ؟.....في كل لحظة ... يدق الجرس ... قلبي يخفق مرة من الخوف و أخرى من الفرح ... يُخال لي أن أحدا من عائلتي .. قد أتى لزيارتي لكن .. كل ما أحلم به سراب ... ... أصبحت أخاف حتى من صوت الجرس...من الغريب جدا هنا أن يدق أحدهم الباب ... رغم كل الأمن الموجود هنا صوت الباب و نغمات الجرس .. تثير الرعب في داخلي ... لا شيء سوى خفقات الأمل ..... لا يوجد من يطرق بابك ...سوى شركات الاتصال ... و المبشرين الذين يدعونك إلى العودة إلى الكنيسة و اتباع منهجها ...
الحل الوحيد إذا هنا لتخرج من أفكارك المتشعبة و ذاكرتك الممتلئة أن تشغل وقتك .. بأي شيء... مهما كان تافها... المهم أن تبقى مشغولا ... الفراغ هنا قاتل .... اليوم يمر كسنة ...هذا ما تعلمته ...من السنة الأولى لي ...في كندا ...
كانت صفحة الفيس بوك .. هي المتنفس الوحيد لي .. فعلى هذه الصفحة أستطيع متابعة أخبار البلد و الناس ...و فيها استطعت أن أجد أصدقاء الطفولة ....و بما أنني لا أحب التلفاز .. و لست من هواة مشاهدة الأفلام ... بل إنني أعتبر نفسي متخلفة تماما في هذا المجال ....كانت الصفحة الزرقاء ... مسرحا ... ...أستطيع به التعبير .. عن كل ما يجول بخاطري ..
و عندما أعود لمراجعة ما كنت أكتبه في سنواتي الأولى .. أقول .. ألهذا الحد قد بلغت من السخف ...؟ . ما هذا الهراء الذي كنت أكتبه ؟؟ و ما هذا الزحام من الصور .... صور و صور و صور ... لكل شيء ... إنها السنة الأولى ... لي هنا .... سنة الانفصام عن الذات ....عن الواقع .. عن الماضي عن الحاضر .... لكن لا بأس .. أستطيع أن أمحو ما سطرته .... لازال معي متسع من الوقت ...لا أريد أن أموت و تبقى في هذه الصفحة هذه الترهات....
عندما كنت في الشرق .. كنت أستغرب لغلاظة القلب .. لدى من يعيش في الغرب ... بل و أنتقدهم .... لم أكن أعرف أن قساوة السنوات هي التي تجعل القلب بهذه الغلظة ...غلظة ممزوجة بقسوة ...و انعدام إحساس بكل ما هو بعيد عن محيط نفسك وحدك آنت فقط......الكثير من المقيمين هنا .. .. لم يقوموا بزيارة عائلاتهم .. لسنوات طويلة ... و أخرين ...قد مضى على إقامتهم هنا سنوات .... و سنوات ...و لم يحن منهم .. للعودة .. أو لزيارة البلد ....... ربما برودة الطقس ...تسللت إلى أجسادهم .... لتجعل منهم ... قوالب باردة في كل شيء .... حتى في المشاعر ... باردين حتى في الحنين ...الإجازة في مفهومهم .. أسبوعا أو اثنين على جزر الكاريبي في فندق فخم .... ليست إجازة بقرب الأهل أو إجازة لزيارة البلد و سماع هموم العائلة و مشاكلها .... لكن .. هل سأصبح يوما ما ... مثلهم ؟ ... هل سأكون نسخة ...عن هذا و تلك ؟ ...لا أعرف .. كل ما أتمناه أن أبقى ...أنا كما أنا......
رؤى الكيال ..
الآحد ١٢ \ مارس \ ٢٠١٧
مونتريال
ليست هناك تعليقات :
إرسال تعليق