هذه قصتي ... الجزء الثاني عشر .
الجزء الثاني عشر ....
بعد أن أتممت المرحلة الأولى من تعلم اللغة الفرنسية ... و بعد تسعة أشهر من العمل الدؤوب كان لا بد لي من إجازة لألملم َ بها قواي التي سحقها عامي الأول في بلاد المهجر ... شعوري بالانتصار على اللغة الفرنسية و بأنني أصبحت قادرة على إدارة حوار مع أحد الأصدقاء كان شعورا لطيفا ...لكن .. لا زال الوقت مبكرا .... طريقي في اللغة مازال طويلا
....لم أكن أدرك أن تعلم اللغة سيأخذ مني هذا القدر من الجهد...و في كل مرة أشعر بها بالفشل أنظر إلى صديقي الستيني من كومبودجيا ...يقرآ و يترجم و يكتب ... لا ..لا يمكن أن يتسلل الكسل لي ... سأبقى أتعلم هذه اللغة إلى أن أموت .
قررت في هذه الإجازة الشتوية أن أفتح ذراعي مجددا لهذه المدينة العجيبة .... قررت أن أعيش قصة حب ... حب لكل شيء ... حتى الثلج .... وقعت في حبه ..ما به ... إنه جميل .. أبيض نقي ... لا تلوثه ...آثام الناس .... بدأت التسكع في المدينة القديمة لمونتريال ... و كانت هي المرة الأولى التي أمشي و أمشي فيها بدون هدف ... أمشي فقط لمجرد المشي ... أحاول أن أزرع في ذاكرتي اللعينة.... ...كل زاوية من زوايا هذه المدنية ......تعج هذه المدينة بقصص الحب و الهوى .. لكن قصصهم تختلف عن قصصنا ... الحب هنا من نوع آخر ... من لون آخر .... الحب هنا ... لا تأسره قيود المجتمع.. و لا ألوان البشرة ... و لا العيون الزرقاء آو العسلية ... هنا لا يوجد مقياس لأي شيء... لا ضوابط في الحب عند هؤلاء الناس أمشي و أمشي و لا أعرف لماذا أمشي ... أقف مذهولة أمام ...سبعيني ... يمسك بباقة من الورود الحمراء و يقدمها لسيدة في الثمانين من العمر في محطة الباص . ما أجملهم ......... أحيانا أحاول غض البصر... لكن في النهاية ... وجدت حيلة تجعلني أستطيع أن أرى قبلات المحبين و عناقهم دون أن يلاحظني أحد. النظارة الشمسية .. نعم .. أرى الجميع .. و لا أحد يلاحظ آين تحدق عيناي .....أدخل إلى محلات التاتو ... لأرى طابورا من الفتيات و الفتيان المهوسين بهذا الفن .... النقش على الجسد ... أستغرب من هؤلاء الناس .. يتحملون الألم ... لماذا .؟. لتلوين أجسادهم الجميلة ... .كم غريبون .... و آنا كعادتي ثرثارة و لا أستطيع إغلاق هذا الفم ... أتحدث و أختلق أحاديثا مع أيا كان ...أبدا الحديث دوما بالسؤال عن عنوان ما ... و آنني أريد المساعدة ..و أجد الجميع يقفون بكل حب و يحاولون مساعدتي لكني لا أريد العنوان أريد آن أثرثر ... أريد أن أعرف المزيد عن هؤلاء الناس .. وعن هذه المدينة ... استوقفت شابا عشريني ...و سألته ... ما هي الرسمة التي تريد آن ترسمها ... قال لي .. هذه ...نظرت إليها .. و قلت لم أفهم أي شيء ... قال لي ....سيدتي هذه النقوش هي عبارة عن رسائل .. و رموز نرسلها للآخرين عبر أجسادنا ....يا للهول ... كنت أعتقد أنها خزعبلات أو أن كل من يضع هذه الوشوم أنهم ممن يقال عنهم عبدة الشيطان ...قال لي ... إن وقعتي في حب هذا الفن فلن تفلتي منه... كيف ؟ إن بدأت بنقشة على جسدك ... سوف تستمري ... سوف يطلب منك جسدك المزيد و المزيد ... لأنك رسالة .... كيف ؟ حين تمشين و ترى الناس نقوشك .. ستوصلين رسالة غير مباشرة الى من يحدق بك .... ستلاحظين آن الجميع يريد آن يقرآ هذا الجسد ... ليعرف رموزك الغامضة... انه شيء ممتع .... ابتعلت ريقي .. قلت .. هذا العشريني يفكر بهذه الطريقة ... كم كنت جاهلة ... آنه فن ...حتى و أني لا أقبله و لا أحبه .. إلا أن لهؤلاء الناس دوما أسبابهم ليقنعوا بها ... الغير ... بما يريدون و بكل هدوء....... تقفين في الصف ... هل اخذتي موعد لترسمي شيئا ما ؟.... ما هي اللوحة التي تريدينها ....؟؟ سكتت .... اللوحة ! ... آريد آن آرسم صحن ... فيه العديد من الفاكهة الملونة .. اريد ان آرسم حول هذا الصحن حوالي عشرين شخصا .... نساء و رجال .... كلهم مختلفون ... احداهن محجبة و أخرى منقبة و أخرى ترتدي فستانا قصيرا ... و اخر يلبس حذاء رياضيا ...منهم من هو قصير و منهم من هو طويل و منهم الآسمر و الآشقر ... كل هؤلاء .. أريدهم آن يجلسوا حول هذا الطبق ... و يتذوقوا ما لذ و طاب ... من خيرات السماء ... استغرب الشاب قال ماهي الرسالة التي تريدي آن تخبري بها من يراك ؟؟
... آترى هذا الطبق ؟... نعم ... إنه الوطن ... هكذا كنا .... سكتت الشاب و قال لي ... آسف سيدتي ....
الفن هنا تجده في كل مكان ... ليس فقط على آجساد الشباب و الكهلة ... على كل حائط في مونتريال هناك فنان .. حطت يده ... و رسمت لوحة ... أشكالا عجيبة غريبة .... لغة لا أستطيع آن أفهمهما و لا فك رموزها .. ..
نقول عن أنفسنا آننا نعلم ... لكنا .. لا نعلم إلا ما تعلمناه ...في بلاد العرب ... لاتجد الفن المرسوم على الجدران ... بل عبارات التأليه و التمجيد ... هنا تختلف الصور و تختلف الألوان ... والأشكال تمتزج بجمال يطفي على المدينة طابعا خاصا .. أما جدران مدننا شاحبة إلا من صورة واحدة ...تتعدد ...تتمدد.... تتقلص... هي واحدة ...رمادية ...كرماد النار التي تشتعل هناك .....و أكثر ما لفت نظري في جولاتي في هذه المدينة ... النساء ... فلكل امرأة قصة ..... واحدة هنا تقود المترو .. وأخرى شرطية مرور تسهل حركة السيارات من هنا ... هذه عاملة تقص الحشائش ... و أخرى ساعية بريد ..... هنا دولة المرآة ... المرآة تنافس الرجل في كل الأعمال ... شيء يدعو للفخر ...و بين تحديقي بهذه و تلك ... آقول في نفسي ....ما الذي ينقصنا لتكون بلادنا كهذه البلاد ....لدينا إرث تاريخي ... لدينا أصالة و عراقة ... لدينا تراث لدينا ... لغة جميلة ...آين تكمن المشكلة .... كيف استطاعت كندا آن تجمع كل هؤلاء الناس على الرغم من تعدد مضاربهم و انتمائهم و أديانهم .. و أعراقهم و ألوانهم و لغاتهم ....... كيف استطاعت آن توحد هذه الأطياف ... بقانون واحد يحمي الجميع ... لا أحد فوق القانون و لا شيء فوق القانون ...قانون يسري على الجميع بدون واسطة فلان ... أو معرفتك بعلان .... لديك حق .. تأخذه رغما عن أنف الجميع .... قانون يقوم مجلس النواب دائما بتجديد نصوص القوانين و نص قوانين جديدة تخدم المصلحة العامة .....
وصلت إلى متحف مونتريال ... هذا المتحف الذي يضم مئات اللوحات التي تتحدث عن سكان كندا الأصليين و عن الحروب التي خاضها الهنود الحمر .. ضد المحتل ...سكان كندا هم من الهنود الحمر ... مشيت في أنحاء المتحف ... يا لجمال هذه اللوحات ... توقف آمام لوحة .. تضم رؤوسا مقطوعة ... موضوعة في نهر و آجساد معلقة على اغصان الآشجار ... قرآت ما كتب على هذه اللوحة ...يا الله هل يعقل آن يكون الانسان بهذه الوحشية منذ ذلك العهد ...تراءت لي فورا ... صور الجثث المتراكمة في مدننا ....لا آريد أن أتوقف كثيرا .. عند هذه الرؤس ... إلى أن وصلت إلى لوحة ... جسد ... جسد بدون رآس . .. قطعة من الشعر تغطي منحوتة جسدية ... غريب هذا التمثال ...لم آستطع آن آفهم لغة .. الفنان ... هذه معضلة مع الفن و الفنانين ... على أن أقرا الكثير عن الفن ... لغتهم جميلة ... غريبة ... عميقة بعمق الآلوان و ساحرة... فاتنة بكل ما فيها ....
و استمرت جولتي في اكتشاف مدينتي الجديدة ... آزقتها ... و محطاتها ... لن تنتهي بجولة آو جولتين ... تحتاج للعديد من الآيام ... لتكشف أغوار هذه المدنية ......كل ما أعرفه الأن .. أنني مغرمة بها ... و أنها المدينة الأقرب لقلبي ..
مونتريال – ٢٥\١٢ \٢٠١٦
رؤ ى الكيال ..
حقوق النشر و الملكية محفوظة لصاحبتها رؤى الكيال
ليست هناك تعليقات :
إرسال تعليق